القصة الكاملة للطفلة ابتسام: خاطفتي غيرت اسمي ومارست علي أشكالا من التعذيب
عالم الأسرة » رحالة
01 - شعبان - 1426 هـ| 05 - سبتمبر - 2005
دخلت قضية ابتسام، الطفلة التي اختطفت يوم 14 يوليو 2002، وظهرت يوم 30 يناير 2005 ردهات المحاكم، ليقول القضاء كلمته، بعدما صرحت السيدة التي قدمتها إلى الدائرة الأمنية، أنها عثرت عليها قبل شهرين بالمقبرة المجاورة لضريح "العربي بن السايح" بمدينة الرباط عاصمة المملكة المغربية، واحتفظت بها في منزلها ''معززة مكرمة''، حسب أقوالها، لتتراجع بعد ذلك وتصرح أثناء التحقيقات التي أجريت معها من قبل أمن سلا بأنها احتفظت بها مدة 17 شهرا، لتبقى الأشهر المكملة لمدة الاختطاف ثمة قيد التحقيق.
فهل تكون تلك السيدة هي من قامت بعملية الاختطاف صيف 2002 أم أن هناك جهات أخرى وراء اغتصاب طفولة فتاة ليس لها من ذنب سوى أنها كانت تمارس حقها في اللعب برفقة أخيها أمام بيتهما بسلا؟
فابتسام صرحت أمام رجال الأمن أول مرة أنها اختطفت من قبل امرأة ذات بشرة سوداء، استغلتها طيلة مدة الاختطاف في التسول، وكانت تطوف بها عبر الحافلات طيلة تلك المدة، مما جعلها غير قادرة على تذكر البيت حيث كانت تقيم، ثم تخلصت منها في أحد الأزقة بباب الأحد بالرباط، فهامت على وجهها لتجد نفسها بالمقابر المجاورة لضريح سيدي العربي بن السايح، حيث وجدتها السيدة التي قدمتها لاحقا إلى مركز الشرطة ويجري التحقيق معها.
وفيما يلي نبسط معاناة الطفلة أيام الاختطاف، كما تحكيها هي:
دخلت عالماً آخر
حياة جديدة باختطاف ابتسام من أمام منزلها بسلا، دخلت عالما آخر لا تزال معالمه مرسومة في ذاكرتها الصغيرة، معالم لم تمحها فرحة العودة، ولقاء الأب والأم وطارق الصغير، فقد تغير كل شيء، فحتى هذه اللحظة، لا تزال ابتسام تتساءل عن المنزل الذي اختطفت من أمامه، فالمكان في عينيها غير المكان الذي كان يأويها وأسرتها قبل سنتين، إذ كان المسكن بعيدا عن الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف، في زقاق، من أزقة سلا، واليوم بعد العودة تجد نفسها منزوية في حجرة متواضعة بين عدد من المراحيض، التي تحاصرها من كل جانب، فلا يلتقط أنفها إلا الرائحة الكريهة التي تعم المكان، تتساءل ببراءة عن المنزل القديم، لأنها لا تعلم أن والدها ترك كل شيء أثناء غيابها بما في ذلك العمل الذي يجلب منه قوت الآسرة، وانخرط في رحلة بحث مضنية، وراء كل خيط قد يوصله إلى فلذة كبده، ومستجيبا لكل رنة هاتف قد تبعث في نفسه أملا لاحتضانها من جديد، رحلة خرج منها بأمراض مزمنة، كان من تبعاتها بتر أصابع من رجله ويده، ورمت به في ذلك المرحاض الذي كان وما يزال يشتغل به حارسا بالنهار، واتخذ منه مسكنا برفقة زوجته وطفله، بعدما تراكمت عليه ديون كراء البيت القديم، ولم يجد سبيلا لتسديدها، فلجأ إلى مرافقة الجرذان والحشرات، واستنشاق هواء ملوث بأقبح رائحة تخطر على بال بشر، دون أن يلتفت إليه أحد ممن أنستهم بيوتهم المكيفة وسرائرهم الوتيرة مآسي الناس وآلامهم.
آثار وندوب تحكي واقع المأساة
التقينا ابتسام ثاني مرة، بعد أسبوع من الإعلان عن نبأ العثور عليها، فوجدناها نائمة، لكنها استفاقت بمجرد دخولنا. لم تغادر سرير والديها، وكان أول شيء بادرتنا به هو تلقيننا كيفية طهي الكسكس، و''المعقودة''، لقد أضحت طباخة ماهرة رغم أنها لم تتجاوز السابعة من العمر، وهذه المهارة لم تكتسبها من والدتها، التي تنظر إليها بحسرة وألم مشوبين بحنان، بل اكتسبتها خلال مدة الاختطاف، إذ كانت ابتسام كما تحكي عن نفسها تقوم بأعمال البيت في بيت مختطفتها..
تثاءبت ابتسام، ثم تتوقف قليلا لتضم والدتها، ثم تلتفت إلينا مضيفة: ''عندما أخذتني تلك السيدة كانت تأمرني بالقيام بأعمال البيت، وكانت تقول لي: ''يا الله.. المطبخ''، ثم تأمرني بغسل الأواني، وتنظيف البيت، وعندما كنت أتعب كانت تضربني''.. نظرت إلى يديها، في حين قامت والدتها بمحاولة كشف مناطق من جسدها تحمل ندوبا، وآثار الكي، فامتنعت الطفلة بادئ الأمر، لكنها استسلمت لوالدتها، وقبلت بأن نطلع حتى على أثر الحريق الذي كان موضعه مؤخرتها، وعندما سألنا ابتسام عن أسباب هذه الحروق والندوب، قالت، وهي تطلعنا على أماكن أخرى لم نرها: ''هذا الحريق الذي في يدي، ما زلت أتذكر سببه، فقد أمرتني مرة بأن أعد الشاي، وعندما فاض الشاي على الموقد، غضبت السيدة، فأخذت السكين ووضعته فوق النار، ثم وضعته على يدي.
وفي إحدى المرات، سمعتني أتأفف من تنظيف البيت، لأنني كنت قد تعبت، فضربتني ضربا مبرحا''... هذا جزء مما تخزنه ذاكرة ابتسام التي ما تزال تتذكر الطريقة التي انتهجتها تلك السيدة لتهرب بها بعيدا عن والدها ووالدتها وطارق الصغير، تقول ابتسام بعدما انثنت على ركبتها: ''كنت ألعب أنا وطارق أمام البيت ـ موضحة ـ (ليس هذا المرحاض)، وكنا نأكل ''المعقودة'' وعندما أنهيت حصتي، طلبت من طارق أن يصعد إلى البيت ليحضر لي قطعة أخرى، ثم جاءت سيدة، وتوددت إلي لأرافقها، بعدما أغرتني بشراء حذاء جديد ثم تعيدني إلى البيت، أما حذائي كنت قد تركته بسلم البيت، ورافقتها، لكنها لم تشتر لي شيئا، بل أخذتني إلى بيتها''
حليمة وليس ابتسام
توقفت ابتسام لحظة عن الحديث، وارتمت من جديد في حضن أمها، معلنة صمتها الذي لم نستطع أن نخرجها منه بجهد جهيد، وكأنها تخاف من تكرار ما وقع لها، ربما تعتقد أن حديثها عن ذلك الماضي الأليم كما صورته كلماتها، والآثار التي خرجت بها منه، والتي تحيي في نفسها هول ما عاشته، كفيل بأن يعيدها إليه، ولعل ذلك هو السبب الذي جعلها تخفي وجهها بين أحضان والدتها، وتلتصق بها التصاقا لم تفلح إغراءاتنا، ولا إغراءات والدها في فكه.
وبعدما ارتاحت قليلا، وهدأت والدتها من روعها، استأنفت كلامها قائلة: ''عندما أخذتني إلى البيت، أمرتني أن أخبر كل من في البيت بأن اسمي حليمة وليس ابتسام، وهددتني بالكي، والضرب إن أنا خالفت أوامرها''... ثم نظرت من جديد إلى جسمها، لكن هذه المرة ناحية رجليها اللتين تظهران كرجلي عجوز طاعنة في السن، فالسواد يحيط أعلى قدميها من كل جانب، وتبرز عظمة خشنة الملمس، في كلتيهما.. حالة تنبئ قبل أن تحكي ابتسام، بأنها كانت دائمة الاتكاء على حصير أو ما شابهه، وذلك ما أكدته الطفلة، التي استأنفت كلامها قائلة: ''لقد كانت تأمرني بالاختباء إذا زار البيت شخص غريب، ولم تكن تسمح لي بالظهور إلا أمام أسرتها الصغيرة، كما أنها كانت تمنعني من الخروج، بل كانت تتركني في البيت وحدي، وتخرج برفقة أبنائها، فتنتابني مشاعر الخوف، وتتراءى أمامي الأشباح'' و''الخيالات''...
وللأطفال حظهم في التعذيب
عانت ابتسام خلال هذه الفترة التي حرمت فيها من حنان الوالدين أبشع صنوف الآلام كما صورت كلماتها في واقع لم تكن قد عاشته من قبل، فالصور التي أطلعنا عليها والدها، والتي التقطت للطفلة أيام كانت بين والديها، وكذا حقيبة الملابس التي تعود إليها قبل اختفائها تظهر مدى الدلال الذي كانت تتمتع به الطفلة، خاصة أنها كانت أول العنقود، كما يقول المغاربة.. دلال استحال إلى قهر وإذلال في بيت وجدت نفسها فيه بدون سابق إنذار غريبة وحيدة بين أناس لم ترهم من قبل، فأصبحت خادمة للسيدة تفرغ فيها مكبوتات نفسها القبيحة، وأداة تسلية بالنسبة لأطفال السيدة.
تقول ابتسام بحسرة: ''لقد ضربتني بنتها الصغرى هنا في مرفقي، وهذا أثر الضربة، أما ابن تلك السيدة فقد كان يخيفني عندما كان يقلد العفاريت والأشباح، كنت أرتعد من الخوف''
وتنهض ابتسام، وتصور لنا كيف كانت تبكي وتصرخ، لكن صراخها وبكاءها كانا يقمعان بما هو أشد. ليلة رأت والداها ابتسام وهي في ''منفاها الإجباري''، كانت تتابع برامج التلفزيون كلما سمح لها بذلك، وفي يوم من الأيام، تقول ابتسام: ''رأيت والدي في برنامج ''مختفون'' (برنامج تقدمه القناة الثانية المغربية)، فصرخت إنه بابا، عز الدين، وهذه والدتي خديجة، لكن المرأة التي اختطفتني كتمت أنفاسي، وضربتني بعصا على رأسي حتى سال دمي، ثم أمرتني بالذهاب إلى المطبخ قائلة ''سيري اقضي شغلك''، بعدها مسحت دمي، ثم قالت لي، ''التلفزة لا تقول الحقيقة، فأبوك وأمك قد ماتا، وقبل موتهما عهدا إلي بتربيتك، فأنا والدتك، وزوجي هو أبوك، ثم أمرتني بالذهاب إلى المطبخ''.
ظننا في بداية الأمر أن الطفلة ربما نسجت هذه القصة من خيالها، خاصة أنها كانت تسمع منذ عودتها إلى والديها أن هذين الأخيرين لم يدعا طريقا يوصلهما إليها إلا وسلكاه، ومن ذلك اللجوء إلى برنامج ''مختفون''، لكن الطفلة أكدت كلامها بذكر بعض اللقطات من الحلقة التي بث فيها نداء والديها قائلة: ''لقد رأيتكما أمام الحافلة تسألان الناس عني، كما رأيت أمي تحمل ''التكشيطة'' (لباس تقليدي مغربي) التي لبستها في رمضان''، وفعلا كانت المشاهد التي ارتسمت في ذاكرة ابتسام من ضمن المشاهد التي بثها البرنامج قبل أكثر من سنتين''.
صمت في حاجة إلى جلسات نفسية
هنا توقفت ابتسام عن الحديث، لكن هذه المرة لم يفلح والدها ولا نحن، ولا والدتها في أن نفوز منها بكلمة أخرى حول مأساتها، بل فضلت هذه المرة، أن تنشد لنا أنشودة ''اللهم صلي على المصطفى.. حبيبنا محمد عليه السلام، واستمتعت وهي تنصت إلى أنشودتها التي أدتها بصوتها الجميل عبر آلة التسجيل التي كانت معنا أثناء الاستجواب، ثم انشغلت عنا بالعبث بحقيبة صغيرة كانت تضم عددا كبيرا من الأقراط، ومشابك الشعر، والدمالج، والخواتيم، وغيرها من الأغراض التي ظلت تنتظر عودتها لتزين شعرها ويديها وملابسها من جديد.
ألم وأمل
رجعت ابتسام، لكنها وجدت أن كل شيء قد تغير.. مسكن تجاور فيه الجرذان، ويدخله الغرباء دون استئذان لقضاء حاجتهم، في شروط بئيسة، فلا أبواب تستر العورات، ولا ماء ينظف المخلفات، وأب مريض لم تتعرف عليه في أول لقاء جمعهما بعد محنة الاختفاء إلا من خلال صوته، فليس هذا هو عز الدين الذي تعرفه من قبل، فعز الدين الذي تركته كان قويا، نشيطا، فيما عز الدين اليوم مريض، لا يزال يضع الضمادة على قدمه، وبعد أيام سيبتر الأطباء إصبعا آخر من أصابع يده، ليبلغ مجموع أصابعه المبتورة ثلاثة أصابع (إبهام رجله، وإصبعان من يده).. فمن يتحمل مسؤولية هذا المصير السيئ الذي آلت إليه الأوضاع بعد
اختفاء الطفلة؟ خاصة وأن هذه الأسرة كانت تحيا حياة عادية كما تعيش جميع الأسر المغربية؟
سؤال ينبعث من بين دموع والدها المنهوك، وحيرة والدتها الصابرة، والأهم من ذلك من سيتبنى قضية ابتسام؟ وهل ستحظى برعاية طبية ونفسية تنسيها تجربتها المريرة؟
وماذا عن تعليمها، خاصة وأنها تجاوزت السن القانونية للتعليم؟ ثم هل من ضمير حي، ينقذها وأسرتها من مجاورة الجرذان إلى مجاورة بني الإنسان، ويحفظ لهم كرامتهم التي ضاعت مع ضياع فتاة؟
إن قضية ابتسام أصبحت أكبر من قضية تتبناها أسرتها الضعيفة التي لا تدري أين تولي وجهها لتنتزع حقوق فلذة كبدها، بل أصبحت قضية مجتمع، وقضية رأي عام، وقضية جمعيات المجتمع المدني التي تعنى بحماية الطفولة، والنهوض بأوضاعها، ومساندتها قانونيا واجتماعيا ونفسيا وتربويا..